قصة القاضي الذكى واللص المحترف
في سوق بغداد يُتَّهَم تاجرٌ بريء بالسرقة بعد العثور على قطعة من ثوبه في موقع الجريمة، لكن بذكاء القاضي واعترافات مترددة، يُكتشف أن السارق الحقيقي هو عامل السوق مروان الذي استغل مفتاحًا نسيه التاجر. في النهاية يُبرّأ البريء ويُعاقَب الجاني، فيُثبت القاضي أن العدل لا يخفى مهما طال الزمن.
قصص طويلة
واحة الحكايات والقصص


في ليلةٍ هادئةٍ من ليالي بغداد، كانت مصابيح السوق الكبير تتراقص أضواؤها الخافتة مع نسمات الليل العليلة.
انطفأت آخر الشموع في دكان التاجر سليمان، وأُغلقت الأبواب بإحكام.
كان السوق ساكنًا، لا يُسمع فيه سوى وقع خطوات حرّاس الليل، ومواء قطةٍ جائعةٍ تبحث عن طعام.
عند بزوغ الفجر، انطلقت صرخةٌ مدوّية هزّت أرجاء السوق:
"لقد سُرق المال!"
هرع التجار والناس إلى دكان سليمان، فوجدوه واقفًا وسط محله، وجهه شاحب، ويداه ترتجفان، وهو يشير إلى صندوقه الفارغ.
تساءل أحد التجار بدهشة: كيف حدث هذا؟ لم يُكسر القفل، ولم يُفتح الباب!"
تعالت الهمسات، وتدافعت النظرات بين الحاضرين في ريبةٍ وحيرة: من الذي استطاع سرقة المال دون أن يترك أثرًا؟
وصل الخبر إلى القاضي عمرو بن ثابت، الرجل المعروف بذكائه ونباهته في كشف أعقد القضايا.
وقف أمام الدكان يتأمل الصندوق المفتوح، ثم سأل التاجر سليمان: متى آخر مرة فتحت فيها هذا الصندوق؟"
أجاب سليمان: قبل غروب الشمس، كنت أعدّ المال وأغلقته بيدي، وحين عدت هذا الصباح وجدته فارغًا."
نظر القاضي إلى القفل، مرّر أصابعه عليه برفق، ثم قال: القفل لم يُكسر، والباب لم يُفتح عنوة، وهذا يعني أن السارق دخل وخرج بطريقة غير مألوفة."
بدأ القاضي يتفحّص المكان بدقة. كانت الأرض نظيفة، ولا آثار أقدام غريبة. اقترب من الصندوق، وتفحّص أطرافه بعناية، ثم التفت إلى الحاضرين وسأل: هل لاحظ أحدكم شيئًا غريبًا الليلة الماضية؟ صوتًا غير مألوف؟ شخصًا يتجوّل بعد إغلاق السوق؟"
ساد الصمت للحظات، قبل أن يتقدّم أحد الحراس قائلاً: يا سيدي، لم أرَ أحدًا يدخل السوق بعد الإغلاق، لكنني سمعت صوت قطةٍ تصيح بشدة قرب هذا الدكان بعد منتصف الليل."
رفع القاضي حاجبيه وابتسم ابتسامة خفيفة: إذن لم تكن قطةً فقط، بل كانت إشارة."
رفع القاضي نظره إلى سقف الدكان، ولاحظ أن أحد الألواح الخشبية لم يكن ثابتًا تمامًا، كأنه أُعيد تركيبه حديثًا.
أشار إلى الحراس قائلاً: أحضروا لي سلّمًا."
صعد بحذر، ومد يده إلى اللوح فأزاحه قليلاً، ليجد فراغًا صغيرًا خلفه يؤدي إلى سقف المبنى. مدّ يده أكثر فوجد خيوط قماش صغيرة عالقة في الزوايا الخشبية.
نزل القاضي وهو يمسك الخيوط بين أصابعه، يتأملها مليًا، ثم سأل بصوتٍ هادئٍ لكنه حازم: من يعمل في السوق ويرتدي ثوبًا من هذا النسيج؟"
تبادل التجار النظرات، وبدأت الشكوك تحوم حول بعض العمال.
قال القاضي وهو يعرض الخيوط: هذه ليست من ثياب التجار المعتادة، بل من قماشٍ خشنٍ يُستخدم عادة في ملابس الحمالين."
تقدّم أحد الحراس قائلاً: يا سيدي، معظم الحمالين يأتون إلى السوق فجرًا، لكن هناك من يبقى بعد الإغلاق لينظّف المكان أو يرتب البضائع."
التفت القاضي إلى التاجر سليمان وسأله: هل كان هناك أحد من العمال قرب دكانك بعد الإغلاق؟"
تردد سليمان للحظات ثم قال: نعم، هناك شاب يُدعى حسّان يعمل في حمل البضائع، وقد طلبتُ منه ترتيب بعض الصناديق عصر البارحة... لكن الغريب أنني لم أره هذا الصباح كعادته، فهو دائمًا أول من يأتي للعمل، لكنه غاب اليوم."
ضيّق القاضي عمرو عينيه وقال بصوتٍ حازم: أين يسكن هذا الحسّان؟"
أجاب أحد التجار: يسكن في زقاقٍ ضيّقٍ خلف السوق، قرب مخازن الحبوب."
أشار القاضي إلى اثنين من الحراس قائلاً: اذهبا إلى هناك، وتحريا عن مكانه، وإن وجدتموه فاحضروه إليّ."
بينما انطلق الحراس، عاد القاضي إلى فحص الدكان من جديد. اقترب من الصندوق المنهوب، وانحنى على الأرض، فمرّر يده برفق فوق البلاط.
كانت هناك ذرات ناعمة من الغبار الأسود، كأن شخصًا داس عليها ثم غادر.
سأل القاضي التجار: هل كان هناك ما قد يترك مثل هذا الغبار هنا؟"
فأجابه أحدهم: يشبه الرماد الذي نجده على أسطح المخازن القديمة حيث يُخزن الفحم والخشب."
هزّ القاضي رأسه وقد بدأت خيوط اللغز تتضح في ذهنه.
بعد قليل عاد الحراس ومعهم حسّان.
كان شاحب الوجه، وعيناه تحملان توترًا ظاهرًا. وقف أمام القاضي مطأطئ الرأس، يحاول التظاهر بالهدوء.
قال القاضي بنبرةٍ هادئةٍ لكنها حازمة: لماذا لم تأتِ إلى السوق اليوم كعادتك يا حسّان؟"
تلعثم الشاب وقال: كنت مريضًا، شعرت بالتعب، ولم أستطع النهوض."
نظر القاضي إلى ملابسه، فلاحظ أنها من نفس القماش الخشن الذي وجد خيوطه في السقف.
أشار إلى الحراس قائلاً: فتشوا أطراف ردائه."
مدّ أحد الحراس يده إلى طرف ردائه، فرفع الحافة قليلًا، وظهر تمزّق صغير تتدلّى منه خيوطٌ شبيهة بتلك التي وُجدت في السقف.
حبس الجميع أنفاسهم بينما ثبت القاضي نظره على الشاب وقال: هذه الخيوط تطابقت مع ما وجدته في مكان السرقة، هل لديك تفسير لذلك؟"
ارتبك حسّان، وتصبب العرق من جبينه.
اقترب القاضي خطوة وقال ببطء: كنت هنا الليلة الماضية، أليس كذلك؟ تسللت عبر سقف الدكان بعد أن تأكدت أن المكان خالٍ، نزلت إلى الداخل، فتحت الصندوق، وأخذت المال، ثم صعدت مجددًا وهربت عبر أسطح الدكاكين، تاركًا خلفك هذه الخيوط."
ارتجف حسّان، وازدادت النظرات نحوه ريبةً وشكًّا.
لكن القاضي لم يتوقف، بل تابع قائلاً: أخبرني، حين هربت، هل عبرت فوق مخازن الفحم؟"
اتسعت عينا حسّان رعبًا ولم يجب.
ابتسم القاضي ابتسامة خفيفة وأشار إلى الأرض حيث بقايا الرماد الأسود: لقد تركت أثرًا دون أن تدري... الرماد على ملابسك وعلى بلاط الدكان فضح طريقك."
ساد الهمس بين التجار، وظهرت الدهشة على وجوههم.
اقترب الحل، لكن القاضي أراد الحقيقة كاملة: حسّان، إن لم تكن أنت السارق، فلِمَ تبدو مذعورًا؟"
ازدرد الشاب ريقه وقال بصوتٍ منخفض: لأنني رأيت شيئًا... لكنني خفت أن أتحدث."
اقترب القاضي خطوة وقال بحزم: رأيت ماذا يا حسّان؟ قل كل ما تعرفه، وإلا عُدت المشتبه به الأول."
خفض حسّان رأسه وقال: كنت أرتب البضائع في السوق حتى وقتٍ متأخر، وحين هممت بالرحيل سمعت حركةً غريبة فوق الأسطح. كنت سأصرخ، لكنني خفت، فاختبأت خلف أحد الصناديق. وبعد لحظات، رأيت شخصًا يقفز من سقف دكان سليمان إلى سطح المخزن المجاور. كان سريعًا وخفيف الحركة، ولم أستطع رؤية وجهه جيدًا، لكن ملابسه كانت فضفاضة تشبه ملابس التجار الكبار في السوق، لا الحمالين أمثالي.
رفع القاضي حاجبيه ثم سأل: هل تذكّرت أيَّ شيءٍ آخر يا حسّان؟ لون الملابس، طريقة المشي، أي شيء قد يساعدنا؟"
فكّر حسّان قليلًا، ثم قال: نعم، حين كان يقفز، سمعتُ صوتًا غريبًا... كأنه رنينٌ خفيف، كما لو أن شيئًا معدنيًا كان يهتزُّ معه."
نظر القاضي حوله، ثم قال بصوتٍ مسموع: أيها التجار، من منكم يرتدي حزامًا معدنيًا أو يحمل شيئًا قد يُصدر هذا الصوت؟"
ساد الصمت، وبدأ التجار يتفحصون بعضهم بعضًا.
عندها قال أحدهم: التاجر سعيد، يا سيدي، فهو يرتدي دائمًا حزامًا فيه حلقات نحاسية تُصدر رنينًا كلما مشى."
استدار القاضي نحو التاجر سعيد الذي كان يقف بين الحشود.
كان رجلاً ذا لحيةٍ مرتبة، وملابس أنيقة، ووجهٍ يكسوه الهدوء.
لكن حين التقت عيناه بعيني القاضي، بدا عليه بعض القلق.
قال القاضي مباشرة: يا سعيد، أين كنتَ ليلة أمس؟"
تلعثم سعيد لحظةً، ثم قال: كنتُ في بيتي يا سيدي القاضي."
رفع القاضي حاجبيه، ثم أشار للحراس قائلًا: فتشوا ملابس سعيد جيدًا."
بدأ الحراس بفحص ثيابه، ثم فجأة مدّ أحدهم يده إلى طرف ثوبه وسحب قطعة قماش صغيرة ممزقة تطابق تمامًا الخيوط التي وُجدت في سقف الدكان.
حبس الجميع أنفاسهم، بينما اكتسى وجه سعيد بالشحوب.
لكن القاضي لم يكن مستعجلًا، فقال بهدوء: إذا كنت بريئًا، فلماذا هذه القطعة من ثوبك موجودة في مكان السرقة؟ وكيف تفسّر صوت الرنين الذي سمعه حسّان وأكّد الجميع أنه يأتي من حزامك؟"
بدأ سعيد يتراجع خطوة إلى الوراء، وصوته يرتجف: أنا... أنا لست السارق! أقسم أنني بريء!"
لكن الأدلة كانت ضده: قطعة القماش، صوت الرنين المعدني، وتردده في الإجابة عن مكان وجوده ليلة البارحة.
نظر القاضي عمرو إليه بتمعّن، ثم قال بصوتٍ هادئٍ لكنه نافذ: إن كنت بريئًا، فكيف تفسّر وجود هذه القماشة التي تطابق ملابسك في موقع الجريمة؟ وكيف وصفك حسّان دون أن يعلم أنك موضع شك؟"
ازدادت همهمة الحاضرين، وبدأ البعض ينظر إلى سعيد بنظرات اتهام.
لكن القاضي ظل ثابتًا لا يتعجّل الحكم.
أطرق سعيد رأسه ثم قال بصوتٍ منخفض: سأخبركم بالحقيقة... لكنني لم أسرق المال."
سكت للحظة، ثم تابع: كنت في السوق بعد الإغلاق، لكن ليس لسرقة المال. كنت أمرُّ عبر الأزقة الخلفية حين سمعتُ حركةً غريبة فوق السطح، رفعتُ رأسي فرأيتُ ظلًّا يتحرك بسرعة. أردتُ أن أتفقد الأمر، فتسلّقت عبر أحد البراميل وحاولتُ اللحاق به، لكن قدمي انزلقت، وتمزق طرف ثوبي. وحين اقتربت من مكان الحادثة، اختفى الشخص تمامًا."
تنفّس بعمق وأضاف: كنت خائفًا من أن يُتَّهم شخص بريء، لكنني لم أتحدث لأنني خشيت أن أُتَّهَم أنا."
ساد صمتٌ ثقيل، ثم سأل القاضي بتركيز: هل رأيت ملامح هذا الشخص؟ أي شيءٍ يدل عليه؟"
تنهد سعيد وقال: كان يتحرك بسرعة، لكنني لاحظت أنه يرتدي رداءً واسعًا وأكمامه طويلة جدًا، وكأنه يريد إخفاء يديه. كما سمعتُ صوتًا خفيفًا يشبه طقطقة الأظافر، كأنه يعاني من عادة عضّها."
لمح القاضي عمر نظرات الدهشة على بعض الوجوه، فالتفت إليهم وسأل: هل يعرف أحدكم شخصًا في السوق لديه هذه العادة؟"
تبادل التجار النظرات، حتى قال أحدهم بحذر: يا سيدي القاضي، هناك رجل يعمل في السوق اسمه مروان، معروف عنه أنه كثير التوتر، ولا يكاد يتوقف عن عض أظافره."
نظر القاضي بسرعة نحو مروان، الذي كان واقفًا في الخلف محاولًا الاختباء خلف الحشد.
وحين التقت عيناه بعيني القاضي، بدا عليه الاضطراب، ثم التفت محاولًا الهرب.
"أمسكوه!"
صاح القاضي، فانقضّ عليه الحراس قبل أن يتمكن من الفرار.
جرّوه إلى وسط السوق، ووجهه ممتقعٌ من الخوف، ويداه ترتجفان.
قال له القاضي بصوتٍ حازم: الفرار دليل الإدانة. لكن أخبرني، كيف دخلت إلى الدكان دون كسر القفل أو الباب؟"
تردد مروان، ثم قال بصوتٍ خافت: أنا... لم أكسر القفل، لأنني استخدمت المفتاح."
اتسعت أعين الجميع، بينما تابع مروان كلامه: كنت أنظّف السوق نهارًا، ووجدتُ المفتاح ملقى بجوار الصندوق، ربما نسيه التاجر سليمان هناك دون أن يدري.
انتظرت حتى خيّم الليل، فتسلّقت إلى السطح، ونزلت عبر الفتحة، وفتحت الصندوق بالمفتاح، ثم صعدت مجددًا وأغلقت الفتحة ورائي."
ثم أضاف محاولًا الدفاع عن نفسه: لم أرد السرقة، لكنني فقير، وكان المال كثيرًا... ولم أستطع مقاومة الفكرة."
نظر القاضي إلى التاجر سليمان الذي وضع يده على جبينه وقال بدهشة: الآن تذكرت! كنت أعدّ المال عصرًا، وأخرجت المفتاح... ربما وقع دون أن أنتبه!"
أمر القاضي الحراس بأخذ مروان إلى السجن، وأعاد المال إلى التاجر سليمان، ثم التفت إلى الناس قائلًا: تعلّموا من هذا الدرس... فالسارق لم يكن بارعًا، لكنه استغلَّ إهمال التاجر، وساعده الخوف على الاختباء طويلًا.
لكن العدل لا بد أن يظهر، ولو بعد حين."
ثم التفت إلى التاجر سعيد وقال له: لقد أُثبتت براءتك، لكن تذكّر أن الصمت أحيانًا قد يجعلك متهمًا. فكن دائمًا واضحًا في قول الحق."
وهكذا، انتهت أصعب قضية سرقة في سوق بغداد، وبقيت القصة تُروى طويلًا بين التجار ليكونوا أكثر حذرًا في المستقبل.

لمشاهدة القصة على اليوتيوب