قصة المستشار الداهية ووشاة القصر

في مملكة اليمامة، عانى الملك شمس الدين من الوشاة الذين يزرعون الفتنة في قصره. وحين طرد زوجته الملكة ظلمًا، وجد المستشار المخلص "حمزة" الفرصة ليكشف له زيف الحاشية وكذبهم. تنكرت الملكة في هيئة خادم أبكم مُلثّم أهداها المستشار للملك، فكانت قربه ليل نهار، بينما اتهم الوشاة حمزة زورًا بأنه خان الأمانة معها. لكن حين كشف المستشار حقيقة "الخادم" أمام الملك، سقطت شهادة الزور، وظهرت الحقيقة ناصعة: أن البراءة مع الصدق، وأن الخيانة في ألسنة الوشاة. فانتصر العدل، وعاد الوئام إلى القصر، وصارت البلاد مثالًا للحزم والعدل والوفاء.

قصص طويلة

واحة الحكايات والقصص

في قديمِ الزمان، وفي بلادٍ تُدعى اليمامة، اشتكى ملكُها شمسُ الدينِ لمستشاره المخلصِ حمزة من كثرةِ الوشاةِ المُغرضينَ في بلاطه، والذينَ يُحرضونه على إصدارِ أحكامٍ غير عادلةٍ تجاه رعيته. فطلب من مستشاره إيجادَ حلٍّ لهذه المعضلة، فوعده المستشارُ بأن يجدَ له حلًّا في أقربِ وقت.

وذاتَ يوم، غضب الملك شمسُ الدين من زوجته الملكة بسبب خطأٍ ارتكبتْه، فطردها من قصره. وكانت الملكةُ مقطوعةً من شجرةٍ، لا أبَ لها ولا أمّ، ولا عائلةً تأوي إليها. وبالصدفة، التقى بها المستشارُ حمزة خارجَ القصر، وكانت في حالةٍ يُرثى لها، فأشفق من حالها، وطلب منها أن تحلّ ضيفةً عليه في منزله.

لاحظَ الوشاةُ ما جرى بين الملكة والمستشار، ففرحوا بما رأوه، وخطّطوا لضربِ العلاقةِ الوطيدةِ التي تجمع بين الملكِ شمس الدين وزوجته والمستشار.

وفي اليوم الذي تلا طردَ الملكِ لزوجته، جاء المستشارُ إلى الملك، ويرافقه شخصٌ مُلثّمٌ يرتدي زيًّا يغطّيه من رأسه إلى قدميه. وقال للملك: يا صاحب الجلالة، أدامك اللهُ عزًّا وفخرًا لهذه الأمة، أنت تعلم أنني كنتُ في خدمتك كمستشارٍ مدةَ عقدين كاملين. أسألك بالله، هل وجدتَ مني خطأً أو إهمالًا في خدمتك أو في إبداءِ المشورةِ والنصيحةِ الواجبة لك؟

فأجابه الملكُ شمسُ الدين: لا سمحَ الله، ما وجدتُ فيك إلا الخير، وحسنَ النصيحة، وخيرَ الصحبة. وفوقَ كل هذا، أنت الذي أثقُ به، وأُحدثه بكلِّ أسراري.

قال المستشار: لقد ناشدتُك الله يا مولاي، هل سبق لي أن سألتُك شيئًا لنفسي أو لأهلي طمعًا أو استغلالًا لمكاني عندك؟

قال الملك: لا أذكر أنك طلبتَ مني شيئًا لنفسك أو لأهلك. لكن إن كان كلُّ هذا لتطلبَ العفو عن الملكة، فطلبُك مرفوضٌ مسبقًا.

قال المستشار: لا، يا سيدي، أنا لستُ هنا من أجلِ ذلك، لكنني أتيتُك اليومَ بهذه الهدية، وأرجو أن تتقبلها مني ولا تردّها عليّ. وهديّتي هي هذا الخادم المطيع والمخلص، الذي ستسعد به يا مولاي. لقد وُهبَ لي، ووجدتُ فيه حسنَ الخدمة والولاء والطاعة لي في كل ما أُسندَ إليه، فآثرتُكَ يا مولاي على نفسي.

ثم سأل الملكُ شمسُ الدين مستشاره حمزة عن سبب تغطيةِ الخادم لوجهه، فأجابه المستشار قائلاً: إنه يا مولاي يحملُ ندباتٍ في وجهه، ولم يشأ أن يُعكّر عليك صفوك عندما تقعُ عيناك عليه، وأرجو منك يا مولاي ألا تطلبَ منه إزالةَ الغطاء عن وجهه، فكما تعلم يا سيدي، الوجهُ موضعُ عزّةِ الإنسان. كما أنه أبكم، يا مولاي.

فأجابه الملك بأنه قبلَ هديتَه للمكانةِ التي يحتلها مستشاره عنده، وقرّر أن يجعله من مساعديه الذين لا يُفارقونه.

وبذلك، بقي الخادمُ بقربِ الملك، يخدمه أفضلَ خدمة، وكان لا يفارقه أينما حلَّ وارتحل.

وبعد مدةٍ من الزمن، اشتاق قلبُ الملك شمسُ الدين إلى زوجته الملكة، وندم على معاملته القاسية لها، وأراد إرجاعها. لذلك طلب من بعض مساعديه أن يأتوه بأخبارها.

فحضر ثلاثةٌ من أكثرِ مساعديه ولاءً، وأخبروه أن زوجته بقيت في منزلِ مستشاره حمزة منذ أن نفاها من القصر. فقال الملك: بلا شك، إنها حلّت ضيفةً عند مستشاري، فهو لم يشأ أن يتركها تهيم في الشوارع بلا مأوى.

وهنا قاطعه أحد مساعديه قائلاً: أنا آسف، يا مولاي، لكن الأمر تجاوزَ ذلك.

وقف الملك عن عرشه وصرخ: أخبروني، ماذا هناك؟!

قال أحدهم: لقد وقع مستشارُكم في المحظور مع مولاتنا الملكة! لقد شهدنا على ذلك بأمّ أعيننا، ونحن نشهدُ بذلك، والله على ما نقول شهيد.

احمرَّ وجه الملك شمس الدين من شدّةِ الغضب، وقال: وكيف عاينتم ما حصل؟!

فأجابوا بأنهم شكّوا في الأمر، فاستدرجوا خادمةً، وأغروها بالعطاء لتُدخلهم المنزل فور أن يهمّ مستشارُكم بالملكة، ففعلت، ووقع ما وقع خلسةً.

جنّ جنون الملك، وأمر جنوده بإحضار مستشاره حمزة.

ذهب إليه مجموعةٌ من الحراس، وأخبروه أن الملك يريده على الفور. فمشى المستشار معهم بالرزانة. تعجّبوا لأمره، وأخبروه أن الملك غاضبٌ منه، وربما يكون هذا آخر يومٍ في حياته.

ابتسم المستشار ابتسامةً بريئة، وقال: اعلموا أن الأمر أمرُ الله، وأنا راضٍ بقضائه وقدَره. أعلم أنني لم أفعل شيئًا يُخالف مشيئةَ الله، لذلك فأنا مطمئنٌّ لحكمه، وتقدير الأمور كلها يتمُّ وفقًا لأمره تعالى، وليس لأحدٍ من خلقه سلطانٌ على حكم الله وتقديره.

وصل المستشار إلى باحة القصر، ووجد هناك الملكَ شمسَ الدين واقفًا، وإلى جانبه بعضُ مساعديه، وهم يُوشوشون فيما بينهم. فقاطعهم الملك، ووجّه كلامه للمستشار: إن مساعديَّ الأوفياء ضبطوك بالجرم المشهود، وأنت تخلو بالأميرة في بيتك. وهم يشهدون ثلاثتهم أنك فعلت. وبما أنك ارتكبتَ جريمةَ الزنا، وأنت متزوّج، فأنت أدرى بعقوبتك. ولن ينفعكَ الإنكار، لا أنت ولا الملكة، فالشهود هم أعوانُ الملك، وأعوانُ الملك مُنزّهون عن الكذب!

قال المستشار: هل يسمح لي سيدي ومولاي بأن أتكلم وأدافع عن نفسي؟

فأذن له الملك، فنظر إلى الشهود الثلاثة، وطلب منهم أن يُقسموا أنهم رأوه يقوم بالفعل المحرَّم مع الملكة بعينها. فأقسموا أنهم رأوه مرتين خلال الأسبوعين الأخيرين.

قال المستشار: متى رأيتموني مع الملكة؟

فأجابوه: إنهم رأوه يفعل ذلك مرتين، وربما أكثر، والله وحده يعلم كم مرة راودها خلال الأسبوعين اللذين مكثت فيهما عنده.

فالتفت المستشار إلى الملك شمس الدين، وقال: لقد اطّلعتَ يا سيدي على ما قاله الشهود، ومما لا شك فيه أنك سمعتَ قسمهم. والآن، أرجو منك يا سيدي الملك أن تميطَ الحجابَ عن وجه خادمكَ المطيع، الذي أهديتُك إياه سلفًا.

تعجّب الملكُ من طلبِ مستشاره، لكن الفضولَ دفعه إلى المسارعة، وما إن أماطَ الغطاءَ عن وجهه حتى ذُهل، وعقد لسانه، ولم يدرِ ما أصابه... فالخادمُ الذي رافقه طَوالَ تلك المدة، ما هو إلا زوجته الأميرة!

تسمّر الجميع من هول الصدمة، فقطع عليهم المستشار دهشتهم قائلاً: يا مولاي، هل فارقك هذا "الخادم" – والذي هو في الأصل زوجتك الأميرة – لحظةً واحدةً منذ أن ادّعيتُ أنه خادم وأهديتُه لك؟

فأجاب الملك شمس الدين: لا.

قال المستشار: فكيف يُعقل، يا مولاي، أن أرتكبَ الفاحشةَ مع شخصٍ لم يفارقك ولو للحظة واحدة طوال هذه المدة؟! بل ويزعمون أنهم رأوني معها خلال الأسبوعين الفائتين!

عمّ السكون المكان، ولم يُسمع للشهود كلمةٌ بعد ذلك، وطأطأوا رؤوسهم كالنعام.

ثم واصل المستشار حديثه قائلاً: كنتَ قد طلبتَ مني، يا مولاي، أن أكشف لك الوشاة والمخادعين من حاشيتك، فوجدتُ طردَك للأميرة أفضلَ مناسبةٍ للإيقاع بهؤلاء الكذبة. إذ فطنتُ إلى أنهم لن يدّخروا جهدًا في الإيقاع بيني وبينك، يا مولاي، كما أوقعوا بينك وبين الكثير من حاشيتك. فعمدتُ منذ البداية إلى إرجاع الملكة إليك، لتخدمك بصفة الخادم الذي أهديتُه لك.

والآن، وقد تبيّنتْ لك يا مولاي شمسُ الدين الحقيقةُ ناصعةً، وتحققت براءتي وبراءة زوجتك من كذبِ وبهتانِ هؤلاء الشهود، فقد حُقَّ أن تُردّ لهم شهادتهم، وأن يُفضح كيدهم. فقد عرّيناهم أمامك، وأعدنا إليك زوجتك المُخلصة، التي كانت تسهر على راحتك طوال هذه المدة، وأنت لا تدري.

والحمدُ لله على كل حال.

سكن رُوع الملك شمسُ الدين بعد أن تبيّنتْ له الحقيقة، وأمرَ جنوده بجلدِ مساعديه الثلاثة – شهود الزور – مائة جلدةٍ كلَّ يومٍ لمدةِ أسبوعٍ، ثم يُلقى بهم في السجن ليكملوا فيه ما تبقى لهم من الحياة، ليكونوا عبرةً لمن بعدهم.

ثم اعتذر الملك من مستشاره الشهم، ذي الخصال الحميدة، على سوء الظن، وشكره على حسن صنيعه، وبراعة تدبيره. وأوصى أن يعود حكمُ البلاد لمستشاره حمزة بعد وفاته.

ووعد زوجته أن لا يُفارقها ما حيِي، وأن يكون لها نعم الزوج والرفيق.

وتغيّرت بعد ذلك أوضاعُ البلاد للأحسن، بعد أن تخلّص القصرُ من الوشاة والكاذبين الذين ضلّلوا الملك طوال الفترة التي حكم فيها. وصارت بلادُ شنقيط مضربَ المثل في الحزم والعدل والوفاء.

لمشاهدة القصة على اليوتيوب